رسائل الصندوق التركي- هل يستجيب أردوغان لنداء التغيير العميق؟

المؤلف: د. سعيد الحاج11.07.2025
رسائل الصندوق التركي- هل يستجيب أردوغان لنداء التغيير العميق؟

تمثِّل الانتخابات المحلية التركية الأخيرة، التي شهدت هزيمة حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى منذ نشأته وحلوله في المرتبة الثانية خلف حزب الشعب الجمهوري المعارض، منعطفًا هامًا يستدعي تقييمًا شاملًا من زوايا متعددة. إلا أن الأهم من بين هذه الزوايا يكمن في استكشاف الدلالات السياسية العميقة لهذه النتائج، وتحديد مدى تعبيرها عن تحول في ولاء الناخبين وابتعادهم عن حزب العدالة والتنمية، أو عن استمرار ثقتهم به، وهو الأمر الذي أثار تقييمات متباينة، كما كان متوقعًا.

نتائج هزت الأوساط السياسية

فاجأت نتائج الانتخابات المحلية حزب العدالة والتنمية، وشكّلت صدمة مدوية له، وربما فاقت توقعات حزب الشعب الجمهوري نفسه. فبعد الانتصار الذي حققه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في شهر مايو/أيار الماضي، استند حزب العدالة والتنمية في حملته للانتخابات المحلية على استعادة البلديات التي خسرها أمام المعارضة في عام 2019، وعلى رأسها مدينتا أنقرة وإسطنبول. وقد بذل الرئيس أردوغان جهودًا مضنية في هذه الحملة الانتخابية، وأولاها اهتمامًا بالغًا.

لكن حزب الشعب الجمهوري لم يكتفِ بالحفاظ على سيطرته على بلديتي أنقرة وإسطنبول فحسب، بل نجح في توسيع الفارق بينه وبين حزب العدالة والتنمية فيهما بصورة ملحوظة، وتمكن من الفوز بأغلبية المقاعد في المجلس البلدي في كلتيهما (على عكس الانتخابات السابقة). علاوة على ذلك، ضمّ حزب الشعب الجمهوري إلى رصيده عددًا كبيرًا من بلديات المدن الكبرى والمحافظات، بما في ذلك مدن كانت تُعد معاقل تقليدية للحزب الحاكم. وقد تصدر حزب الشعب الجمهوري نتائج الانتخابات على مستوى تركيا ككل للمرة الأولى منذ عقود، وبالتأكيد للمرة الأولى في عهد حزب العدالة والتنمية.

وبالأرقام، انخفض عدد البلديات التي يترأسها حزب العدالة والتنمية من 39 مدينة كبرى ومحافظة في عام 2019 إلى 24 مدينة فقط في عام 2024. ونظرًا لأن المستفيد الأكبر من هذا التراجع كان خصمه اللدود حزب الشعب الجمهوري، الذي رفع رصيده من هذه البلديات من 21 في عام 2019 إلى 35 في عام 2024، فقد كانت الخسارة مضاعفة لحزب العدالة والتنمية.

يمكن اعتبار هذه الهزيمة محطة إضافية في مسار التراجع الذي يشهده حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وخاصة التشريعية منها، خلال العقد الأخير. وقد عزز ذلك فكرة التصويت الاحتجاجي أو العقابي لأسباب متعددة، بعضها يتعلق بالحزب وسياساته، والبعض الآخر يتعلق بالعملية الانتخابية ذاتها. رأى البعض أن هذه النتيجة تعبر عن تطلع الشعب التركي إلى قيادة سياسية جديدة، وأنها تمثل تحولًا في المشهد السياسي في البلاد. وكان من بين هؤلاء رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، الذي وضع النتيجة في سياق رغبة الشعب في تغيير الحزب الحاكم ورئيسه. كما بدأ البعض بالترويج لرئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، كمرشح محتمل لرئاسة تركيا في المستقبل.

إذًا، هل سحب الناخب التركي بالفعل ثقته من الرئيس أردوغان وحزبه، وهل يتجه نحو فتح صفحة جديدة بقيادة مختلفة؟

تحليل معمق للدلالات

في أول اجتماع لقيادة الحزب الحاكم، تناول الرئيس التركي بشكل صريح وواضح "رسائل الصندوق" التي وجهها الناخبون إلى حزبه، ووجه قيادات الحزب بالبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج والعمل على معالجتها، بدلًا من إلقاء اللوم على الناخبين كما تفعل بعض الأحزاب الأخرى. وأكد على أنه ينبغي على الحزب "التصدي لأي خطأ، وإلا فقد لا نتمكن من تجنب كوارث أكبر في المستقبل القريب".

يشير الرئيس أردوغان هنا إلى فكرة التصويت الاحتجاجي أو العقابي الذي تجلى بوضوح في الانتخابات الأخيرة لأسباب عديدة، قام بتفصيل بعضها ودعا إلى دراسة البعض الآخر بعمق أكبر. ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من التصويت ليس بجديد، فقد حدث مرارًا في السابق، كما حدث مع حزب الوطن الأم في الانتخابات المحلية في عام 1989 على سبيل المثال، ومع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية في شهر يونيو/حزيران من عام 2015 (قبل أن تعاد الانتخابات ويحقق الفوز فيها)، وفي العديد من الاستحقاقات اللاحقة بدرجة أقل. ولذلك، يكرر الرئيس أردوغان بعد كل محطة انتخابية تعهده بالاستجابة لـ "رسالة الناخبين".

والمغزى من هذا التصويت هو أن شريحة من الناخبين التقليديين للحزب أرادوا إيصال رسالة احتجاج قوية إلى الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، تتضمن مطالب بالتغيير والتحسين في مختلف المجالات. ولا يعني ذلك بالضرورة أنهم تخلوا عن الحزب لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض، وذلك استنادًا إلى عدة قرائن، في مقدمتها أنهم قبل عشرة أشهر فقط أعادوا انتخاب الرئيس أردوغان رئيسًا للبلاد وجددوا الأغلبية البرلمانية لتحالف الجمهور الحاكم. وليس من المتوقع أو المعتاد أن تتغير توجهات الناخبين بهذه الصورة الجذرية والحادة خلال هذه الفترة الزمنية الوجيزة.

إن تفسير التباين بين النتيجتين خلال فترة لا تتعدى العشرة أشهر يكمن في الاختلاف بين طبيعة الاستحقاقين الانتخابيين. فالاستحقاق الأول كان عبارة عن انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، يترتب عليها الكثير فيما يتعلق بالنظام السياسي، ومن سيقود البلاد ويضع السياسات للخمس سنوات القادمة (على أقل تقدير)، وهو الأمر الذي لا يحتمل معه – بالنسبة للكثير من أنصار حزب العدالة والتنمية – "المغامرة" بانتخاب المنافس أو حتى إفادته.

أما الاستحقاق الثاني فهو انتخابات محلية تتعلق بالبلديات، وتداعياتها السياسية المباشرة محدودة للغاية مقارنة بالاستحقاق الأول، وبالتالي فهي تحتمل هذا النوع من الهزات أو الرسائل الاحتجاجية التي قد تتسبب في استفادة آنية للخصم، ولكن يؤمل أن تعود بالفائدة على الحزب على المدى البعيد.

تؤكد تفاصيل النتائج هذه الفرضية، بل وتثبتها. فالجزء الأكبر من النتيجة يمكن تفسيره بتراجع نسبة المشاركة في الانتخابات (حوالي 6% مقارنة بالانتخابات المحلية السابقة و10% مقارنة بالانتخابات الرئاسية الأخيرة)، وليس بتحول كبير في اتجاهات التصويت. كما توضح النتائج التفصيلية أن معظم المقاطعين في هذه الانتخابات كانوا من أنصار حزب العدالة والتنمية.

علاوة على ذلك، فإن بعض الذين قاموا بإبطال أصواتهم، والذين ازداد عددهم بشكل ملحوظ عن الانتخابات السابقة، عبروا عن اعتراضات تتعلق بالحكومة والحزب الحاكم. ويضاف إلى ذلك صعود حزب "الرفاه من جديد" بقيادة فاتح أربكان، والذي كان مفاجأة الانتخابات بحلوله في المرتبة الثالثة، حيث يبدو أنه سحب من رصيد حزب العدالة والتنمية أكثر من غيره، باعتباره "خيارًا آمنًا" أو بديلًا محتملًا لحزب العدالة والتنمية بالنسبة للناخبين المحافظين على وجه التحديد.

الخطوات المستقبلية المحتملة

وعليه، يمكن القول إن ما حدث كان بمثابة رسالة قوية اللهجة موجهة إلى الرئيس أردوغان وحزبه، بهدف تصويب وتعديل بعض المسارات. ولذلك، كان تفاعل الرئيس أردوغان مع هذه الرسالة مختلفًا هذه المرة، إذ جاءت تصريحاته سريعة وواضحة ومباشرة ومفصلة ومكتوبة، وتضمنت تحملًا للمسؤولية عن التراجع ووعدًا بالاستجابة لمطالب الناخبين.

في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، صدرت عن الرئيس أردوغان تصريحات مماثلة بشأن التغيير، ولكن الأمر بدا مقتصرًا في معظمه على تغيير بعض الوجوه في الحزب، وتحديدًا في الهياكل التنظيمية في المدن والمحافظات، بناءً على تقييم مفاده أن السبب الرئيسي في تراجع حضور الحزب هو كسل التنظيم و/أو تقاعسه و/أو عدم قدرته على كسب تأييد الناس، أو كما قال الرئيس التركي مؤخرًا: "بناء جدران بينه وبين الشعب".

من الواضح أن تغييرًا من هذا النوع لن يكون كافيًا هذه المرة، ولا نعتقد أنه كان كافيًا في السابق، إذ إن الرسالة هذه المرة قاسية جدًا، وتدق ناقوس الخطر بشأن المستقبل. وقد عبر الرئيس أردوغان عن هذا المعنى، حين قال: "إما أن نرى أخطاءنا ونصوب أمورنا، وإما سنستمر في الذوبان مثل الثلج تحت الشمس".

من المتوقع أن نشهد قريبًا تغييرات في هيكلة الحزب ودوائره القيادية، كما يمكن توقع تعديل وزاري محدود، وإن كان من غير المرجح أن يحدث في المستقبل القريب جدًا. ولكن كل ذلك سيبقى في إطار التغييرات الشكلية التي لا ترقى إلى مستوى حجم رسالة الاحتجاج هذه المرة. فالمطلوب اليوم هو التطرق إلى التحفظات الأساسية لدى مناصري الحزب، والمتعلقة بالفكر والخطاب والممارسة السياسية، بما في ذلك طريقة الحكم ومنظومة التحالفات والترهل وضعف الأداء. وهي الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نشوء "جدران" بين الحزب وأنصاره.

يبقى السؤال الأهم هنا: هل يستطيع الرئيس أردوغان إقناع الشارع التركي بجدية التغيير وعمقه وجدواه؟ الأمر ليس بالسهولة المتوقعة حتى مع رئيس قوي مثل الرئيس أردوغان، فالكثير من السلبيات المشار إليها موجودة منذ سنوات طويلة جدًا، وتجذرت إلى حد ما مع تحول الحزب إلى حزب حاكم مهيمن على الحياة السياسية في البلاد. ولكنه ضروري كما هو واضح إذا أراد الحزب أن يبقى رقمًا صعبًا، كما كان دائمًا وحتى الآن، في المشهد السياسي التركي، وألا يلقى مصير سابقيه من الأحزاب الحاكمة، على ما حذر الرئيس أردوغان نفسه.

تبدو السنوات الأربع المتبقية حتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة مدة زمنية كافية لإحداث التغيير ورؤية آثاره على الناس، إذا صدقت النوايا، إذ إن المطلوب والمجدي يتطلب إرادة وجهدًا ووقتًا وإصرارًا. من المنتظر أن يكون الرئيس أردوغان قد قرأ رسالة الناخبين بشكل دقيق، وأن يملك الإرادة اللازمة لتغيير حقيقي وعميق هذه المرة، ولكن المهمة ليست سهلة ولا مضمونة النتائج بعد كل هذه السنوات، وسيبقى الحكم في النهاية للشعب، وتحديدًا أنصار الحزب الذين ما زالوا يملكون الثقة بالرئيس التركي ليقوم بالتغيير المنشود. فهل يفعلها؟ وهل ينجح؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة